أبو شربل رجل من بلدتي سبق أقرانه في النزوح الى بيروت في مطلع الستينيات من القرن الماضي، للإقامة في ضواحيها القريبة من أجل العمل. وكان بتعبه وجدّه استطاع إشادة بناء له ولأخوته، يسكن فيه وينتفع من مردود إيجاراته. إلى أن أتت الحرب وما نتج عنها من هضم لأصحاب الحقوق والاملاك من قبل مستأجرين ومصادرين أو محتلين.
ومع وصول الرئيس إميل لحود الى السلطة، إستبشر كثيرون بالخير، وقد وعد في خطاب القسم بسيادة دولة القانون والمؤسسات، وبالعقاب والمحاسبة وأن أصحاب الحقوق سيحصلون على حقوقهم. حيث أعلن في مطلع ذلك العهد عن إنشاء مكتب في القصر الجمهوري، لتلقي شكاوى المواطنين ومراجعاتهم والعمل على حلّها سريعا.
فقام السيد أبو شربل الذي أسعده هذا الخبر السار، بعد فترة قصيرة بالإتصال بمكتب الشكاوى في القصر الجمهوري علّه يحظى بحلّ لمشكلته، فتعود حقوقه اليه.
- أبو شربل: ألو، ألو، مكتب الشكاوى في القصر الجمهوري؟.
- أجابت الموظفة: بصوت هادىء لطيف، نعم هنا مكتب الشكاوى في القصر الجمهوري.
- أبو شربل: معك المدعو فلان الفلاني، أنا عندي مشكلة مستأجرين منذ ما قبل الحرب، وأريد أن تحلوا لي مشكلتي.
- الموظفة: وفي غاية اللطف، أهلا وسهلا، نعم، نعم، يا سيد ….، وبعد أخذها كل التفاصيل اللازمة بالشكوى، قالت: سنتصل بكم يا سيد… في أسرع وقت، الموظفون المختصون في المكتب سيبدأوون مباشرة دراسة مشكلتكم من أجل حلّها.
- أبو شربل: فرحا ومنتشيا، شكرا لك، شكرا، وادامكم الله، و و و…..
وتمر الايام، أسبوع أسبوعان، شهر شهران، وأبو شربل ينتظر ولا إتصال أو إستفسار أو حتى مكالمة من مكتب الشكاوى المذكور.
فيكرر أبو شربل الإتصال للمرة الثانية، ويكون الجواب على إتصاله كالمرة السابقة في غاية اللطف والتهذيب، وأن التأخير الحاصل مردّه فقط الى أمور إدارية ولوجستية، وأن قضيته قيد المعالجة. فيسرّ أبو شربل من مكالمته، ويعود مغتبطا مطمئنا الى أن حل مشكلته قادم خلال ايام، أو أسابيع معدودة إن تعسّرت الأمور.
ولكن للأسف، تمر الأيام والأسابيع والأشهر وأبو شربل ينتظر، إلى أن ضاق صدره، فعاد وإتصل بمكتب الشكاوى، وكان الجواب كالمرات السابقة، لطيفا هادئا مهذّبا، وأن مشكلته في طريقها الى الحل.
فكظم غيظه متحليا بالصبر، وانتظر، علّ في إجاباتهم على إتصالاته ومراجعاته المتكررة، شيئا من الحقيقة.
لكن، وبعد إنتظاره لفترة طويلة، وتيقّنه بأن كل إتصالاته راحت سدى، قام أبو شربل بالاتصال بمكتب الشكاوى وقال لهم:
حضرات السادة إسم مكتبكم مكتب الشكاوى، وفي القصر الجمهوري تحديدا، أي تتلقون إتصالات الناس لحلّ مشاكلهم، كما يفترض أن يكون الأمر، يعني أن يتوجه الناس اليكم لحل مشاكلهم لأنكم الدولة المسؤولة عن إيجاد الحلول لمشاكل المواطنين؟
ولكن إذا أردنا أليوم أن نشتكي منكم وعليكم فإلى اين نتوجّه؟ إلى أين يتوجّه المواطن المظلوم إذا أراد أن يشتكي من ظلم دولته؟ إذا أراد أن يشتكي من مستوى الفساد المستشري في مؤسساتها؟ إذا أراد أن يشتكي من مستوى الإنحطاط في سلّم القيم المهنية والوطنية والانسانية؟، إذا أراد أن يشتكي من ومن……؟
إن ما نشهده اليوم من إغتيال لحقوق المواطنين في أموالهم وأملاكهم وأمنهم وحياتهم اليومية والمعيشية، وفي صحتهم وتعليمهم، حتى باتت بديهيات الحياة بالنسبة لنا أمنيات، والظفر بها حلما. كل هذا التآمر والظلم مع وجود حصانات بالجملة والمفرق، إذا تآمر عليك سياسي فهو محصّن لا تستطيع اللجوء الى القضاء لمحاكمته، إذا خانك محام كلّفته في قضية ما لا تستطيع محاسبته لأن عليه حصانة، وإذا وإذا… ومشهدية الفساد مستمرة راسخة في كل مفاصل دولتنا وحياتنا اليومية.
هذه المشهدية هي أوضح صورة عن مأساتنا في هذا الوطن، بدل أن تكون الدولة ملجأ للمواطنين، لحل مشاكلهم ورعايتهم تصبح الشكوى منها وعليها. بدل ان تكون نقابات المهن الحرة في صف المواطن تدافع عن حقوقه ومكتسباته أصبحت صروحا لحماية منتسبيها.
وأمام كل جريمة ترتكب بحق المواطن والوطن ليس بالمستطاع إلا أن يسكت المواطن ويقول في نفسه: إن الشكوى لغير الله مذلّة. نعم في لبناننا اليوم تكون الشكوى لغير الله اكبر مذلة، وطريق الهجرة هي الملجأ.
وكما قال أحد كبار مثقفينا : وتصبحون على وطن…..
د. طوني وهبه